يا مرسال المراسيل
منذ متى لم أتلقَّ رسالة؟ أعني رسالةً حقيقية، من ورقٍ وحبر.. سنين ربما، افتقدت فيها، ضمن أشياء كثيرة أخرى أفتقدها اليوم بحنينٍ أشبه بالهوس، ملمس الورق ورائحته وخشخشته ومرأى تلك الخطوط الأليفة أو الغريبة أحياناً التي تجعل قلبي يخفق بشدة. منذ متى لم أكتب.. عزيزتي فلانة أو عزيزي فلان، وأنا أعنيها، بعيدأً عن تلك التحيّات المستوردة والمقتضبة والباردة.. هاي، هالو، كلمات هزيلة تعاني من مجاعةٍ إلى أحرف مشتعلة بجمر المشاعر. منذ متى لم أكتب في رأس الصفحة تاريخ اليوم ليعرف قارئ الرسالة متى سكبت له من روحي على الورق. منذ متى لم أتفنن في كتابة اسمي في نهاية رسالةٍ طويلةٍ متعددة الصفحات مرفقاً غالباً بكلمةٍ مشتاقة وبوعدٍ لا بدّ منه بلقاءٍ في القريب العاجل، حتى ولو كان هذا القريب العاجل لن يأتي أبداً
منذ متى ام أعد أعدّ الأيام بانتظار ردٍ تأخر عن موعده فجعلني أقلق وأتساءل عن أسباب التأخير فألجأ إلى اختراع الأعذار وتخيّل مواقف وحكايات مجنونة أحياناً لأفسّره
منذ متى لم تزعجني رسالة فمزقتها في لحظة غضب أعمى، ثم جلست أنظر إلى جثتها المبعثرة أمامي وأندم لأنني لم أكن أكثر رأفةً بها وبنفسي
من زمن لم أعد أتساءل في المساء، ماذا سأجد في صندوقي غداً ومن يا ترى هزّه الشوق إليّ فخطّ لي رسالة ليستفسر عن أحوالي وأخباري.. أو أرسل لي بطاقةً جميلةً تقول الكثير بكلامٍ قليل، أو ربما صورةً ليذكرني بملامحه محاولاً أن يرسم على وجهه ابتسامة مطَمئنة تقول لي أنا بخير، لا تقلقي
اشتقت لأن أشتاقَ لأحد وأن يدفعني شوقي لأمسك بالورقة والقلم وأكتب له رسالة. أختار الورق بعناية، وأحسّن خطي ليبدو أنيقاً وأضع علامات التوقف والتعجب والاستفهام وأشدّ عليها، لأجعله يحسّ بفضولي أو لهفتي أو استغرابي
لم يعد لديّ صندوق بريد له مفتاح أحتفظ به في حقيبتي بحرصٍ كحرصي على مفتاح منزلي أو مفتاح قلبي. ولم يعد هذا القلب يخفق بانفعال شديد وهو يجتاز الخطوات القليلة التي تفصله عن الصندوق، ثم يزداد خفقانه فيصبح مجنوناً جداً وأنا أدير المفتاح في القفل وأشرّع الباب السحري لأجد خلفه رسائل توقّعتها وأخرى تفاجئني، فأقرأ بعضها على عجل وأتأنى بقراءة بعضها الآخر مثنى وثلاث ورباع. وربما وجدته فارغاً، سخيفاً، يتثاءب من الضجر، فينفطر قلبي، أو ربما وجدت فيه رسائل كثيرة إلا تلك الرسالة التي انتظرتها لفترة طويلة طويلة، كافية لأدرك لحظتها أن القصة انتهت وأنه لا داعي للانتظار بعد الآن
فقدت من بين طقوس أخرى كثيرة سقطت من حياتي طقس الكتابة فساء خطّي تدريجياً وانقطعت علاقتي بالقلم، واستعضت عنه بتلك القطعة البلاستيكية المستطيلة الكبيرة أنقر عليها بنزق أحرفاً صمّاء تظهر أمامي على شاشةٍ بلا روح
ولّى إلى غير رجعة زمن الرسائل والأغلفة والطوابع البريدية والكتابة بالحبر وشرايين القلب، وظلّ في خزانتي ذلك الصندوق الخشبي المزخرف غطاؤه بالورود الصينية الحمراء يحتضن بأسىً رسائلي القديمة. أما رسائلي الجديدة فها هي قابعة بلا طوابع ولا أختام في ذاكرةٍ عملاقة لجهازٍ مجهول بعيد آلاف الأميال يسلّمني بريدي لحظةً بلحظة، دون أن يترك لي مساحةً أمارس فيها لعبة الشوق والانتظار