قريش تتشاور في أمره عليه الصلاة و السلام
قال ابن إسحاق : ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم ، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا ، وأصابوا منهم منعة ، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، وعرفوا أنهم قد أجمع لحربهم . فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين خافوه .
قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم من أصحابنا ، عن عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج ، وغيره ممن لا أتهم ، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما أجمعوا لذلك ، واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له ، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة ، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل ، عليه بتلة ، فوقف على باب الدار ، فلما رأوه واقفا على بابها ، قالوا : من الشيخ ؟ قال : شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له ، فحضر معكم ليسمع ما تقولون ، وعسى أن لا يُعدمكم منه رأيا ونصحا ، قالوا : أجل ، فادخل ، فدخل معهم ، وقد اجتمع فيها أشراف قريش ؛ من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب . ومن بني نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل . ومن بني عبدالدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة . ومن بني أسد بن عبدالعزى : أبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود بن المطلب ، وحكيم بن حزام . ومن بني مخزوم : أبو جهل بن هشام . ومن بني سهم : نُبيه ومنبَّه ابنا الحجاج ، ومن بني جمح : أمية بن خلف ، ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش .
فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأيا . قال : فتشاوروا ، ثم قال قائل منهم : احبسوه في الحديد ، وأغلقوا عليه بابا ، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله ، زهيرا والنابغة ، ومن مضى منهم ، من هذا الموت ، حتى يصيبه ما أصابهم .
فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا لكم برأي . والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه ، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم ، فينزعوه من أيديكم ، ثم يكاثروكم به ، حتى يغلبوكم على أمركم ، ما هذا لكم برأي ، فانظروا في غيره .
فتشاوروا . ثم قال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا ، فننفيه من بلادنا ، فإذا أُخرج عنا ، فوالله ما نبالي أين ذهب ، ولا حيث وقع ، إذا غاب عنا وفرغنا منه ، فأصلحنا أمرنا وأُلْفتنا كما كانت .
فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حُسْن حديثه ، وحلاوة منطقه ، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب ، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم ، فيأخذ أمركم من أيديكم ، ثم يفعل بكم ما أراد ، دبروا فيه رأيا غير هذا .
قال : فقال أبو جهل بن هشام : والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد ؛ قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا ، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ، ثم يعمدوا إليه ، فيضربوه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه ، فنستريح منه . فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، فرضوا منا بالعَقْل ، فعقلناه لهم .
قال : فقال الشيخ النجدي : القول ما قال الرجل ، هذا الرأي الذي لا رأي غيره ، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له .